ليست كلُ الأماكن تستطيعُ احتوائنا، بعضُ الأماكنِ كالحُفر قد تبتلعنا دونَ سابقِ انذار، وهي الأماكنُ ذاتها التي تحرقُ الكثيرَ من مشاعرنا، وتستبدُ أحلامنا وتستكثرُ تحقيقها. ليست كٌل الأماكنِ آمنة، فبعضُ الأماكن تستعمرُ قلوبنا دون احتواءها، هي ذاتُها التي تنحر الكثيرَ من رغباتنا وتأكل من ذكرياتنا وتجعلنا مُختلفين لا نشبهُ أنفسنا، فقط عند الخطوة الأولى التي نخطوها فيها.
في أولِ مرةٍ خطت قدماي ذلك المكان أخذت حياتي تسيرُ بطريقةٍ مُختلفة لم أعهدها يومًا، بطريقةٍ لم أألفها ولم أعتدها، وها أنا الآن أقفُ مرةً أخرى عندَ عتبةِ بابِ هذا المكان للمراتِ الأخيرة لأنني استطعت أخيراً الرحيل عنه، أو بالأحرى اختار أن يتركني ويتوقف عن تحطيمِ ما تبقى مني! وعندَ هذهِ الدقائق الأخيرة، أتذكرُ كم مرةً أحصيتُ فيها عدد المرات التي حاولتُ أن أتأقلمَ مع المُحيط، مع المجتمعِ الذي أصبحتُ جزءاً منه، كُنت في كُلِ مرة أُقنعُ نفسي بمحاولةِ التأقلم تِلك، زرعُ فكرةِ أنني أصبحتُ جزءاً منه، ولكن الشيء الوحيد الذي كان يخطرُ في بالي وأنا بينَ الجموع أو عند مراقبتي للناس من وراءِ النوافذ، وساعاتِ انتظاري الطويلة، أن هذا المكان ليسَ مكاني، وكل ما استطعتُ فعله هو المحاولة مراراً وتكراراً، ولكن جميعَ المحاولات باءت بالفشل، و بقيَت فقط بعض الأشياء التي أردتُ أن أعيشها طالما أنني وجدتُ نفسي مرغمةً على قضاءِ فترةٍ زمنية فيه.
كُل ما أردته هو بعضُ الذكرياتِ الجميلة التي أتذكرها مهما مرّ عليّ من وقت، ومشاركة الأشخاص لحظاتِ الجنون التي أعيشها، وبعضُ الأشخاص الذين يشبهونني، بعض الأصدقاء الذين تُطربهم أغنياتي ويلهمهم جنون أفكاري، أردتُ الطمأنينة و بعض السلام، ولم أحصل حتى على ذلك. كان صعبًا أن يكون لديّ فائضٌ من الأحلام في هذا المكان، لم أعلم أن بعضُ الأماكن قد تصبحُ مقبرة للأحلام لأحدٍ ما، وقد كانَ من نصيبي أن يتمَ قتلُ الكثيرِ من أحلامي الصغيرة التي حظيتُ بها هُنا.
وعندَ هذهِ النقطة ينتهي كُل شيء ويجبُ عليه أن ينتهي بأي طريقةٍ كانت، عليّ أن أنقذ ما تبقى ما لدي، أن أغادر مع كُل تِلك الخيبات والمواقف التي لم تستحق المشاعر التي أعطيتها إياها، مع كُلِ ذلك الجهد الذي بذلته لكي أُتمسك ببعضِ الأشخاص، أن أغادر دونَ أن أحزن على مغادرتي في يومٍ من الأيام، وأن أحتفظ بالقليلِ القليل مما اكتسبتهُ وحظيتُ بهِ من أجلي هُنا، أن أستعد لبداياتٍ جديدة وأماكن أُخرى على أملِ أن تحتوي أحلامي في مهدها كالأمّ مع رضيعها، وأن تُربّتَ على حُزنِ أيامي كالعائلة وتقدمَ لي الأمان بِلا حدود وما أحتاجُهُ من حُب.
الصورة
مدونة
الجمهورية العربية السورية