هل أستطيع أن أختصر عاماً كاملاً من المشاعر الكونيّة في نصّ واحد؟ سأحاول.
عزيزي القارئ، أحيطك علماً بأن ما ستقرأه سيكون طويلاً، متناقضاً، ممزوجاً بضحكات عديدة، وبكاء هائل، وسيكون ممتلئاً بالحبّ والحزن، والفقد.
ويمكن أن يكون مملاً، أو سيئاً، لذلك أدعوك أن تضبط نفسك لتقرأ قلبي، وعقلي، وأيامي، ولحظاتي.
سعادة
أمدّ يدي إلى أعوامٍ سابقة..
أمي وأبي، وإخوتي الثلاثة من حولي وأنا أقف على كرسيّ في المنتصف أمام طاولة بسيطة. قالب حلوى صُنع بحبّ أمي وزيّنته بشمعات تحدد سنواتي الصغيرة، المدفأة متوهّجة، التلفاز يستجدينا بأعلى صوته ولا نعطيه أيّ اهتمام، هدايا إخوتي بسيطة حتى أكاد لا أذكرها، أبي يجلس في مكانه المعتاد على الأريكة ينتظر قطعته من الحلوى، وأنا فرحة جداً.. جداً.
أكلات لذيذة، غرفة ممتلئة بالحُبّ العائلي، يوم تشرينيّ ممزوج بالبرودة والدفء، كل الأنوار عالقة لا نقلق من فقدانها، يحدث أن يهطل المطر في الخارج، أو أن ترعد وتبرق وتهبّ الأعاصير من حيث لا ندري، والفرح بداخلنا يجعلنا لا نعي ما يحدث في الخارج، نحن الستّة داخل الغرفة، نحيط ببعضنا البعض، لم أعلم حينها أني أُطفأ شمع سنواتي بتوهّجها ولا أعيد إشعالها من جديد، ولن أستطيع. أطفأتها بقوّة وبقيتُ حبيسة تلك الغرفة، نائمة هناك، دافئة هناك، وحيدة هناك. لم أعلم أنني سأُبقي هذه الأعوام في عروقي وأوردتي، حبيسةً في داخلي، نائمة في قلبي، هائجة في عقلي، ثابتة في عينيّ.
حزن
يعتصر قلبي، أحاول أن أتنفّس، أبكي بلا توقّف، حزينة. حزينةٌ هي الأيام التي ضاعت تواريخها ولم تعد موجودة لنتذكرها، حزينة تلك اللحظات التي أعطتنا كلّ الأمان الذي نحتاجه وضاعت منا وضعنا بها، حزينة تلك الرسائل التي لم تعد لنا، حزينة تلك المشاعر التي لم نوفي حقّها، تلك الوعود التي علقت في عقلنا تُعذّبنا بكل قوّتها، تلك النظرات التي لم تجلب لنا سوى البكاء، حزينٌ ذلك العناق الممزوج بالخسارة، كلّ اللقاءات حزينة، والبدايات والنهايات.
حزينة تلك النصوص التي كُتبت ولم تصل بعد، الكلمات التي كنتَ تودّ أن تحكيها بعد مشوار لطيف ولكنك لم تستطع بسبب البُعد، حزينٌ ذلك الوقت الذي قضيتَه بانتظار رسالة أحدهم حتى تحوَّل الانتظار إلى غضب عارم في أنحاء جسدك وعقلك وقلبك، حزينة تلك المحادثات التي تمّ التخلّي عنها، والأحلام، والأمنيات، والأغاني.
تلك الخطوات التي كنتُ أعرف أنني أذهب بها إلى لقائي الأخير مع أغلى أشخاصي، كانت حزينة ووحيدة، وحيدة جداً لا تملك أحداً يساعدها على السّير أو يسندها، حائرة تذهب يمنةً ويسرة لا تعرف ماذا سيحصل بعد الآن، إلى أين ستذهب بها الأيام، تخيّل أنك تسير بقدميك لتدفن قلبك وتراقبه وتغصّ بكلمات كثيرة كنتَ تتمنى لو أنك حدّثته بها، تراقبه حتى آخر حبّة تراب وتحسدها، وتغصّ، وتبكي، وتدعو "يا الله."
خوف
أتعرف ما معنى أن تخاف من أن يرنّ هاتفك ويأتيك ذلك الخبر المفجع؟ ينتابك الرعب من كلّ حديث، لم تعد تعنيك الطُرقات لأنك قِستها بكلّ خوفك ومشيت بها بكلّ وحدتك، فلم يعد يعنيك أن تكون بها مجدداً، خنقتك الشّوارع حتى بتّ تهرب منها، تنظر من النافذة إلى الأشجار المتحرّكة وتتسائل، "هل تشعر بخوفي هذه الأشجار؟ هل حفظتْ وجهي الحالك الخائف؟ وقلبي الخافق المرتجف؟"
أذكر أن الطريق إلى هناك كان من أطول الطرق، حين قال لي الطبيب "انت لحالك بالبيت؟ والله يا عمّو ما بعرف شو قلك، العمر إلك.." وحينها توقّف العُمر في عقلي وكنتُ لوحدي في هذه الحياة "يا عمّو"، وهنا لا أستطيع أن أكتب كيف كانت تلك اللحظات، لكنها ممتلئة بالخوف والرعب والحزن والغضب والحيرة، مليئة بالبكاء والتسبيحات. ماذا سأفعل الآن؟ كيف سأواجه هذا العالم؟ هذا هو الخوف والفقد الحقيقيّ، أن تفقد روحاً دون أن تودعها، أو تحظى بفرصة تقبيل يدها، أن تفقد صوتاً لا تعلم أنك لن تسمعه من جديد، أن تفقد وجوداً لم تكن مستعداً لفقدانه. كلّ المفقودات بكفّة، وهذا بكفّة العالَم كلّه.
الخوف من المجهول، الخوف من الساعة، من طريقٍ ما، من مكالمة، من صورة، من رقم، من مكان، من مقهى، من رسالة، من حديث، من الناس، من الأصدقاء.
غضب
يثور قلبي، أحتاج لأن أتكلّم، أن أحكي وأحكي، لكنّ السّبيل مقطوع، وطريق الكلام غير معروف، أتعرف معنى أن تُحرم من الكلام بقوانين غير شرعيّة؟
أذكر أنني أسير بسرعة كبيرة، أفكّر وأربط كل ما حصل في عقلي، من الخارج هادئة ومن الداخل أحترق، أريد أن أعرف لماذا حصل كل هذا وهل الحياة تستحقّ أن نهجر ونبتعد لأننا عديمي المسؤولية اتجاه مشاعرنا؟ أغضب من نفسي لأن ثقتي الممنوحة أصبحت مُستباحة فبات من الغباء أن أثق حتى بنفسي.
أنقمُ على الحياة، على الأبواب، على الطّريق الطويل، على المطبّات المزعجة، على المقهى الممتلئ، على الهاتف، على التاكسي، على المستشفيات، على دور الطّبيب الغير منظّم، على الصيدليات التي لا تملك الأدوية اللازمة، على الواتساب، على الحواجز الحدوديّة، على العملات الأجنبية، على الأصدقاء، على الأقرباء، على العالم، على شركات العمل، على المنظمات الدولية، على الهوية.
____
مزيج من كل ذلك أصبح عنواناً واحداً لهذا العام، الفقد.
يرتسم الفقد بأوجه عديدة ومختلفة، كأنّ تفقد ساعتك مثلاً، أن تفقد ساعات نومك، وساعات عملك، وسعادتك
أو أن تفقد خاتمك المفضّل، ونَضَارة وجهك، وراحة عقلك، واتّزانك وتوازنك. أن تفقد بريق عيني أحدهم، أن تفقد النّظر إليهما ورؤية ذاتك بهما، تفقد السّير بمحاذاتهم، ومحادثتهم، وضحكاتهم.
أن تفقد طرقك المفضلة وتراها تُسلب أمام عينيك ولا تملك حقّ الدفاع عنها، مقهاك المفضل، مشوارك المفضّل، حوارك المفضّل الفريد والغريب، زهورك الخاصّة، والكلمات، تفقدها مع نقاطها وأسطرها.
تفقد تصبيحة معيّنة من والدك، ورائحة قهوته تجذبك لتجلب فنجانك وتسرق من ركوته وتجلس لتستمع له وهو يشرب قهوته ويدندن "اللله"، وتفتقد مكالماته التي كانت تُخيفك أحياناً لأنك متأخر عن المنزل، أو توصية منه لغرض ما.
تفقد عناقاً كان صادقاً لأبعد حدّ، تفقد أماناً واهماً صنعته لنفسك من حديث أحدهم، تفقد سنداً، تفقد حلماً، تفقد مستقبلاً كاملاً وعليك أن تبنيه من جديد لوحدك. تفقداً أعواماً بنيتها بضحكاتك ومشاعرك، كنت تودّ لو بقي كلّ شيء على حاله، تفقد جزءاً من قلبك ومن روحك، تفقد كثيراً منك بلا موافقة ولا استئذان.
تفقد ألوانك، ويتوقّف الوقت في عينك، فتعيش تكرّر الأمور كما تريد هي بلا قرار منك، تعطيها كل الرّاحة لتسيّرك، لأن الوقت يأتي ليكون هو سيّد كل شيء، تخرج الأمور عن سيطرتك، حتى أنت، تخرج عن السيطرة.
حسناً؛ هل هناك امتنان؟
هناك امتنان لكلّ الابتسامات التي استقبلتْ وجومنا برحابة وحُبّ، يظهر ذلك جليّاً في عيون المقرّبين، الودودين، المهتمّين، ويظهر بعناقهم الصادق، الغريب القريب، عناق عيونهم لنا وكلماتهم الخفيفة التي تمسح على قلبنا ليحيا قليلاً. هناك امتنان للخالة التي رأيتها صدفة وقالت لي كلمات أسعدت مسمعي وغمرتني بفرح غريب، لبائع الخضرة الذي اعتنى بكيس الخضراوات كي أستطيع حمله جيداً، وساعدني باختيار الفاصولياء لتنال إعجاب أمّي، لسائق التكسي الذي أوصلني في ذلك اليوم للمشفى وأطفَأ الأغاني وصمَتَ وأسرع حين رآني في قمّة انهياري وخاف علي ورفض بدايةً أخذ حقّه من الأجر، امتنان للأصدقاء الذين ثبتوا رغم كل التغيّرات وحافظوا علينا، وسعوا لإسعادنا بكلمة، ببسمة، بضحكة، بغمزة، بصباحيّة مميزة، والامتنان، كل الامتنان للعائلة. العائلة الوحيدة التي تحتضنك وتحتويك بكلّ عيوبك وتستقبلها وتسمع حزنك وتسعى لإسعادك، العائلة أوّلاً.
ولكن؛ في كل الأوقات باختلاف مشاعرنا وحالاتنا، يبقى جزء من النّص مفقود. يبقى فينا، يعيش، ويكبر، لا نستطيع أن نحكيه أو نرويه أو نصفه؛ نعيشه وحسب، لأن الفقد جزءٌ منّا، نفقد كل يوم يوماً من حياتنا، نفقد شعوراً، نفقد لوناً، نفقد شغفاً، نفقد جزءاً من النصّ كنّا نودّ لو نرسمه أو نحكيه أو نكون جزءاً منه في رواية أخرى.