كلُّ الذين غفوا في هذا العالم استفاقوا، أكانَ حلماً ثقيلاً، أو كابوساً نستطيع أن ننسى تفاصيله بعد رؤية ضوء الصباح أو شُرب قهوتنا الساخنة.
كان لدينا حلم جميل حول أنفسنا، وكنّا نصبوا إلى تحقيق مجتمعنا الفاضل، المجتمع الذي نرى فيه أهل الشمال كأهل الجنوب، وحضارة الغرب تتنفس من روح الشرق، ونتمنى أن نسموا على شرطنا، وتقلّبات أحوالنا. لكن الجنوح على مفترق التأملات، والأماني فتح فيه جرحاً، وبدأ الجرحُ ينزف ويضمحل.
وراح يتخذ، مع ضموره، أشكالاً وتسميات، تيارات وانتماءات، أنظمة وتحالفات، سياسات وإيديولوجيات. وكأن الإنسان رهن ما مَلَكت يداه، وعَبد ما صنع ورفع.
وبين حين وآخر، ننتبه إلى ضياعنا، وحجم خسارتنا، وفقدان شرطنا الإنساني. ثم نبدأ بالإنحدار عن ذاك المستوى، إلى أن نستفيق، ونرى ضراوة واقعنا الرديء، المتفسّخ، عديم الروابط والقيم.
ويأتي "كورونا"، نتيجة لعدم مسؤوليتنا، وضعف قدرتنا على احتمال آلاف الأعوام من الحضارة، والتاريخ الإنساني، والجدليّة، والوجود. جاء متجاوزاً التاريخ، والجغرافيا، والحدود، والأديان، والشعوب واللغات؛ ليحاضر بالبشرية، ويذهب تاركاً أبطاله وضحاياه.
قال لي والدي:
" لا أعرف لماذا داهمتني فكرة كهذه بإلحاح، فكرة مفادها أن شيفرة وراثية بسيطة، كأحد تجليّات الطاقة الخالدة، تكافح من أجل بقائها وديمومتها وحقها بالتكاثر. "
"ربّما كانت في البداية مهادنة مسالمة، ضيفاً قليل الإزعاج، لكننا نحن البشر بهمجيتنا وجشعنا وتعاملنا الوحشي مع موارد الأرض والوسط المحيط - الحي منه وغير الحي - وتجبّرنا وأنانيتنا المفرطة، جعلنا من هذا البسيط بكل المقاييس، جبّاراً قاهراً".
أبي!
لا أعلم لماذا لم تفارقني كلماتك، ولِمَ داهمتني فكرتك أيضاً، واحتلت كياني ووجداني.
ترى يا أبي، هل بمقدورنا أن نذهب مسرعي الخُطى، بأفكارنا وأجسادنا، إلى جميع الأمكنة - الفكرية، والمكانية- وبكلِّ الأزمنة (كما يحلو للأطفال أن يذهبوا)، دون أن نضرب أخماسنا بأسداسنا للرحيل؟!
هل بمقدورنا، أن نروي براعم أحلامنا بالعدالة، والإنسانية، والمساواة بين الشعوب فتغدوا زهور محبة يانعة؟!
ليتنا نستطيع، ولا تكون الفاجعة.
إلى جميع رموز الملاحم، في التاريخ الإنساني، وجميع الأطفال الذين قَضوا في حروبنا ورفضت الحياة أن تستقبلهم..
نحن نادمون، وسامحونا على طول الغياب.