في مشهدٍ من فيلمٍ مصريِّ، تجلسُ امرأةٌ كبيرةٌ في العمر -نامت خطوط العمرِ عند ابتسامتها- على كرسيٍّ خشبيّ اهترأت تفاصيله إلى أن استسلم للأرضِ، كانت واضعةً أمامها علبة مجوهراتها التي اقتنت كلَّ غرضٍ فيها بعناية فائقة، فنحن النساء نعطي أهمية كبيرة للأشياء التي تلمع على أعناقنا و وأيدينا و كأنَّنا نحنُ من نُضيئها، كانت تخبر فتاة عشرينية جالسة أمامها تتأمَّل بريق عينيها وهي تقول:
"كل حاجة من دي ليها حكاية بس مش فكراها"
مشهدٌ يُعيدُك مبصراً حتَّى وإن كنت أعمى الشعور .كم من أمور نخشى نسيانها في الحياة! الخطوة الأولى، واللحن المفضّل، والطريق إلى المكان الذي سميناه كما أحببنا -الطرقات التي وجدت بها أحدهم لم تفارقه إلى اليوم- ملامح تخشى نسيان تفاصيلها، وأصوات تضرب رأسك بيدك علَّك تذكُر كلمة منها. كلَّ يوم يمضي وكلَّ ثانية ستكون إمَّا في ذاكرة أبدية، أو أنها ستمضي كحال اليوم الذي خُلِقَت فيه.
هذه الحياة عبثية! تعيش عمراً بأكمله لتدرك أمراً واحداً، وعندما تصل ترى أنَّه كان سراباً. هكذا النسيان، تصل ولكنك لا تملك شيئاً. تخيَّل لو أنَّ عمرك هذا سيمضي في نسيم النسيان، وكأنَّ هواء الخريف أحبَّك الآن كما لم يحببك البقاء، تصل لتُخبر أحدَهم أمراً بعد مسير دام العمر كلَّه، لكنك عند وصولك تنسى وتُنسى .
النسيان، إنَّه الخوف الكبير و الوادي الذي لا صدى له. جميع من أحببناهم نتمنى لو تُحفر ملامحهم على قلوبنا، وكلُّ الطرقات التي نسير بها نرغب لو أنَّها تمرُّ من داخلنا. والذكريات، إنَّها فرحة العمر و معنى الوجود. فكيف إن ذهبت قبل أن نذهب! إنَّه أمَرّ الأمراض وأكثرُها فتكاً بالروح أن تجلس والدتك لتسألك من أنت وهي التي شاخت وبذلت العمر ﻷجلك، أن تخبرك انَّها نسيَت اسم أولادك، أو أول خطوة لك وأولّ يومٍ ذهبت فيه إلى مدرستك. نسيَت كيف وضَّبت لك حقيبتك عند السَّفر و كيف عانقتك قبل كلِّ رحيل، نسيَت كم من دموع نامت تبكيها لأجلك، نسيَت الفرح والألم والحب والسَّعادة، نسيَت كلَّ ما عاشته. فاللَّهم عُمراً دون أن ننسى ودون أن نُنسى.
إلى طفلتي ..
أعدكِ يا صغيرتي أنِّي لن أنسى
لن أنسى لِمَ سميتُك و كيف هي حروف اسمك
لن أنسى صوت بكائك وجمال ابتسامتك
لن أنسى أوَّل خطوة، و أوَّل كلمة لك، وأغنيتك المفضلة
لن انسى عندما ترحلين، وعندما تعودين، ولونك المفضل
لن أنسى مراهقتك المُتعِبة، وضجرك من عقليَّتي القديمة
لن أنسى أسماء أطفالك التي تحبين
لن أنسى حتَّى وإن شاب العُمر يا كلَّ العمر
إن جلستي يوماً أمامي وكانت غياهب النِّسيان في قلبي
أخبريني كلَّها ..
أخبريني فإنِّي أريد أن أعيشها كلَّها مجدداً
ارويها لي واروي ظمأ ذاكرتي يا كلَّ الذكرى
أعدك
سأكتبها جميعها لتقرأيها، إن لم استطع أن أخبرك بها
سأكتبها لتبقى قصة تنام على جدائلك كلَّ ليلة ..
تغفو عند ثغرك، وتستريح على عنقك، و تشرب من عينيك عند كلِّ عطش
و أعدك أني لن أنسى
يا ذاكرتي وكل ما أعيش .
17 يونيو 2020