بدأت أفقد شهيتي للأخبار فالأعداد باتت مألوفة، تتصاعد بشكلٍ أسّي ومن ثم تهبط بوقع تدريجي بطيء. لم يعد هناك شئ ملفت للانتباه... اللقاح يحتاج لسنة والوفيات
تخرق حاجز العشرة آلاف يوميا أما إرشادات الوقاية فأصبحت كابوسا يلاحقنا جميعا :عشرون وثلاثون واربعون ثانية.. الكمامة غير مجدية او مجدية.. متر او مترين او اجعلها عشرة فكما يقال"لا يمكنك أن تكون أكثر حذراً من اللازم !!"... في أوضاع تشابه في طبيعتها ما نمر به حاليّاً، كانت القراءة قادرة على جذبي من أعماق الفراغ.
في الحقيقة لم تكن الروايات تستهويني كونها مجرد "أخيلة كتابها" وكونها بلا فائدة."ومن قد يحتاج للفائدة الآن" هذا كان تعبيري مع أول رواية لي كان سهلاً جداً الحكم على الروايات بخلوها من النفع ولو حتى بالترويح عن النفس فهي لا تملك أية فرصة أمام الأفلام المصورة، بدأت القراءة ولم أكد أنتهي من روايتي الأولى حتى عرفت كم نحكم على الأشياء دون إعطائها الحق بالحديث عن نفسها فنحن نملك دافعاً فطرياً لإصدار الأحكام فحين نلتقي بشخص لأول مرة يبدأ الفضول بتحريكنا لمعرفة معلومات أكثر عنه حتّى نضعه في خانة من الخانات أهو جيد؟ أم سيء؟ أم ماذا؟
يمكن أن نعمم ذلك على كل شئ، معلومات من هنا وهناك بإمكانها أن تجعلنا نحكم على أي شئ دون أية معرفة حقيقية به. لم أحتج وقتا لاختيار رواية للحظر فهنالك دائما رواية على قائمة الانتظار ولعل هذا أحد ميزات التسويف القليلة، لم يستغرقني الأمر كثيراً للاستغراق في الأحداث فقد كانت سريعةً متلاحقة دونما مماطلة، أما الأماكن التراثية والعصرية معماريا، والتي دُهشت بوجودها ومع وصف مكنني التنقل بين متاحف بيلباو وكنائس برشلونة والإستمتاع بكل جزئية وتفصيل يحكي عن تاريخ المدينة و أبنيتها فكان شعور الإنبهار يتزايد مع بحثي عن الأماكن الفريدة معماريا والفكرة من إنشاء كل منها .
انتهت الرواية مع موت أحد شخصياتها الرئيسية ولكن بنهاية سعيدة وكأنه قد سحب عود الثقاب الخاطئ لتنتهي رحلته ويكمل الآخرون الطريق، وما اشبه ذلك بما نمر به الآن.
وبهذا أكون جربت الإنشغال بالمسلسلات و الأفلام وأخيرا بالقراءة، ولم يكن أي منها جيدا كفاية، ربما لأنها حلول سريعة مؤقتة لا يمكنك أن تبني يومك عليها فهي تملأ أوقات الفراغ عادة ولكن ليس فراغا كهذا !
تنامى شعور العزلة سريعا ودخلت في حالة من الراحة.... وهي شبيهة إلى حد ما بالكسل مع إختلاف جوهري متعلق بحالة الصفاء الذهني مبتعدا عن مئات المشتتات (فلدى أدمغتنا قدرة فريدة على امتصاص الأشياء مباشرة ومن ثم معالجتها في الخفاء، ودون سابق إنذار تعود لتطفو على السطح مجدداً)
قللت تعرضي إلى المشتتات إلى أدنى مستوى ممكن، وبعد أسبوع فقط بدأت أرى مدى أهمية الصمت والحياد وعدم التدخل أو التفكير بشؤون الآخرين وكمية الأحاديث التي نصطنعها ونشغل أنفسنا بها .
إن شعور الراحة مميز جداً، ومحفز جداً وبالتأكيد مريح جداً. وبالطبع، لا أقصد الراحة الجسدية وإنما الراحة من التفكير وإطلاق الأحكام وخلق المقارنات. لعلي أصف ما مر من أيام الحجر بمعسكر لم شتات النفس والذي كان مليئاً بالتعقيم والتنظيف أيضاً.
لا أعتقد بأني قمت بالكثير في هذا الحجر ولكنه كان فرصة ثمينة لإزالة الغباشة التي كانت تدفعني فقط لمجاراة الأمور وأخذ دور المفعول به على الدوام، لم أخرج بإنجاز أستطيع مشاركته على وسائل التواصل الإجتماعي أو بمهارة أستطيع الإستفادة منها.
ولكن أصبحت أكثر معرفة ومبادرة فيما يتعلق بحياتي الشخصية وأهدافي بعيدة المدى وما هو مهم للآن وما هو مهم للغد.
ولعل التحدي الحقيقي الذي نواجهه جميعا هو أن نستمر برعاية نفوسنا والتوقف للتفكير بجدوى ما نقوم به وذلك مع قرب انتهاء الحجر وعودة الحياة لزخمها .