نظراً لأن الطبيعة التكوينة لغزة وسكانها مختلفة من منطقة لأخرى، بمعنى أن غزة المدينة في بعض الأوقات يسكنها التشاؤم وقلّة الحظ وفي اوقات أخرى يسكنها الأمل والجهد المبذول لقاء تغيير يافطة رمزون السرايا بما يتلائم مع طبيعة الرأي للأحزاب السياسية.. أما بالنسبة لسكان غزة المدينة فهم اقرب لتفاحة ناضجة نضرة قوية متماسكة تجترحها بعض السكاكين من وقت لآخر فيتأكسدون ويقتربون من العطب بسرعة مذهلة... ثم تبدل هذه الصورة نفسها مرة أخرى لتشمل شمال غزة مرة وخانيونس ورفح مرة أخرى..بتداول كوني مستمر.... بمعنى اخر فأهل غزة هم أجهل الناس بشعابها...
بالقرب من شارع البحر وتحديداً دوار ١٧ المطل على كورنيش بحر غزة هناك بائع الذرة المشوية، هذا الإنسان صراحة يمدني بقوة عجيبة، إنسان يشعرك بالإنجاز وقت شرائك كوز الذرة المشوية، هذا الإنسان الذي يسألك بكل كبر إن كنت تريد أيها المواطن الضعيف أن يوضع الملح على الكوز أم تفضله كما هو.. بغض النظر عن مصادرة البلدية لعربته كل أسبوع مرتين حسب ما اذكر إلا أنه يعيد نصبها مرة أخرى بتصميم جديد يلائم روح الكورنيش ومدارس الأطفال الموجودة هناك.. وتلائم أحمد أيضاً.
لم أعرف أحمد إلا قبل بضع أشهر، هو يبيع الكعك عند باب الجامعة الغربي المطل على موقف السيارات.. كان أحمد يتوزع وقتها بين السيارات يبيع الكعك والقليل من الحلوى منزلية الصنع.. بالرغم من أن حاجتي طوال هذه الأشهر لأحمد كانت قوية جداً فقد كان كعكه يمثل صمام الأمان الذي يقيني من الجوع، بشكل خاصّ بالنسبة لإنسان مثلي لا يأكل إلا أصناف محددة من الطعام.. إلا أني تألمت.. فبالوقت الذي كان أحمد يبيع الكعك الذي يحضره بحقيبته المدرسية الساعة العاشرة او الحادي عشر صباحا كان طلاب المدرسة المجاورة يخروجن من المدرسة وقت انتهاء الدوام الرسمي. وفكرة المقارنة بين الصورتين صعبة بالمجاز والحال مما دفعني وقتها لسؤال أحمد عمّا اذا كان أحد والديه يعمل.. فبدأ برواية قصته باعتيادية كونه سئل نفس السؤال أكثر من مرة بأكثر من صيغة، تحدّث عن والده الذي وافته المنيّة وعن أمه التي تكد بأحد مصانع الخياطة وأنّ دخلها لا يكفي لدفع أجرة المنزل وأنه اضطر للعمل لتوفير بعض الدخل وترك المدرسة كون أفضل فترة لبيع الكعك هي بين السابعة والحادي عشرة صباحا ولا يمكن أن يكون متواجداً في المدرسة بهذه الفترة وإلا سيخسر اليوم.. كان حواره -وأكاد أجزم- كحوار بائع الذرة المتكابر والذي يحصرك كمشترٍ بين ملح أو بدون.. خطاب أحمد كان يجب أن يدرّس بأحد المعاهد بالوطن بتقديري .. قدرة قوية لمجابهة المستمع بالنسبة لطفل لم يتجاوز الثالث عشرة من العمر، وجدت نفسي مضطرا وقتها لسؤاله ما إذا أراد العودة إلى المدرسة أم يبقى لبيع الكعك... كانت إجابته كالآتي:
"ما حدا برفض يتعلم، بس برضه ما حدا بده يجوع والتعليم معي العمر إلو بس لما انا وإمي نجوع، وقتها ح نموت" إجابة قوية ألقاها بابتسامة صفراء، تسبب صدمة لكلّ مستمع في مكاني.
لم أر أحمد بعدها لفترة طويلة، والآن وأنا أكتب هذا النصّ جالساً في أحد المقاهي على شاطئ البحر أشاهد أحمد وصديقه يحاولان إدخال اسفنجة في البحر ليركبا فوقها كأنها سفينة على حد قوله، الآن فقط أدركت الموقف باستيعاب أكبر... أحمد قطعة أمل خلقت لهذه المدينة الكئيبة، ترفض الانصياع للمقدرات والمكتسبات المؤقتة..أحمد معلم بأسلوب تدريس مختلف.