عندما زارت جدّتي الأقصى، أتيحَ لها ذاك التصريح المؤقت للصلاة فيه بشرط أن يكون عمرها يجاوز الستين ولحسن حظّها كانت!، أخبرتني أنهُا زارتهُ قبلها مرّة .. عندما كانت صبيّة في الإعدادية أيام حكم الإنتداب البريطاني قبل أن يأتي الإحتلال بأقل من سنة، بعد أنّ اقترحت مديرة مدرسة بنات غزة الفكرة ولاقت قبولاً متأخراً من الأهالي بالسماح لبناتهم بالمغادرة إلى شق الوطن الآخر لوحدهنّ بشرط التأكّد من المرافقين وظروف الرحلة.. أنّ الباصَ الذي نقلهم من غزة إلى الأراضي المقدّسة كان يعجُ بالأغاني والضحكات ومشاغبات زميلاتها، رحلة مدرسيّة عاديّة مليئة برفاق السوء وسندوتشات الجبنة البلدية وفطائر لحمّ الصاج.. حتى أنّ الباص لم يستغرق أكثر من ساعة ليصل بهم إلى المدينة المقدّسة وسط دهشتهم الكاملة من الجمال الذي بدؤوا يطالعونه على أطلالها .. وانّ مرشدة الرحلة لاحظت هذا الشغف في عيونهم وقررت ان تترك رؤية الأقصى في الحي الإسلاميّ في الشمال الشرقي للمدينة إلى آخر الرحلة، إختارت طريقاً واحداً وتركتهم يمشون خلفها بلا وعيّ .. "حارة النصارى" تقع شمال غرب البلدة القديمة. وتمتد من درج باب خان الزيت وسط السوق، وحتى باب الخليل غرباً، وسويقة علون من جهة الجنوب. على الرغم من تسميتها بحارة النصارى، إلا أن أصحاب الدكاكين فيها غالبيتهم من المسلمين بياعي الخرز والأواني الزجاجية .. تركتهم مرشدتهم يهيمون في روائح التوابل وتلال الزعتر الخليلي المستورد من الجنوب.. في الكعك المقدسيّ الذي يختلف عن الكعك الذي عهدوه في مدينتنا بحيث أنهُ أكبر وأكثرُ قساوة، وصلن كنيسة القيامة هناك عند الباحة في مواجهة الكنيسة، وجدن إلى اليمين دير مار إبراهيم للروم الأرثوذكس وقد سمي بهذا الاسم تيمنا بالتقليد المسيحي الذي يقول بأن أبانا إبراهيم جاء إلى هذه الصخرة يقدّم ابنه ذبيحة. فوق الهيكل الذي في صدر الكنيسة وجدن فسيفساء تمثل مشهد الصلب. في واجهة الكنيسة هيكل وفوقه صورة ليسوع المصلوب وعلى جانبيه القديس يوحنا والعذراء أمّه.. حارة المغاربة المليئة بالتراث والشجن والتي دمرها الإحتلال لاحقاً على من فيها لإقامة مساكن جديدة للمستوطنين الوافدين لأداء الصلاة.. بوابات الأقصى الخمس عشرة كانت لوحدها حكاية.. ظلال الشعور بقدسية المكان، إلتماع قبّة الصخرة المضلعة في المنتصف .. المسجد القبليّ والمصلى المروانيّ في الزاوية .. كلها أشياءَ أكبر من أن تحكى وأكثرَ من أنّ توصف.
ولكنّ المرة الثانيّة كانت تختلف!، حدّثتني أنّ الباصّ الذي كان يقلُّ الأرواح الشابّة الصغيرة التي كنّ معها في المرة الأولى تبدّل بشيوخ هرمين، وأنّ الصخب الذي صاحب الرحلة الأولى وأغانيها هي وصديقاتها لسائق الباص "يا سوّاق غزة - رام الله خدنا للقدس مشان الله" لم يكن مهماً هذه المرة، الجميعُ أكتفى بمداراة خيبته وذكرياته وشوقهِ المكبوت.. حتى شكلُ الأسواق إختلف والخرز أصبحَ باهتاً وموجوعاً، لم تزر كنيسة القيامة لأنّ اليهود اغلقوا الشارع لإقامة أحد أعيادهم المعتادة في حيّ الأرمن، ولكنّ شيئاً واحداً فقط أعطاها تلك القوة الغريبة التي شاركتها في رحلة العودة .. وهو أنهُ عندما همّت بالصلاة في ساحات الأقصى بحثت عن شجرة ظليلة وفردت شالها وهمّت بالتكبير، أتت نحوها شابّةٌ في مقتبل العُمر وهي تحملُ سجادة ناعمة وتقول "هاي أطرالك يمّا" .. سرحت جدّتي للحظة لتستحضر من ذاكرتها ذلك الموقف، أظهرت بعدها ابتسامة ناعمة قبل أن تقول: انتبهتُ إلى وجودهنّ .. كنّ أكثرَ من واحدة يجلسنَ في أحد المصاطب القريبة ويبدو أنهنّ يتناقشن بموضوع هام ولكن عندما لاحظنَ أنني أنظرُ إليهنّ أتينَ وسلمن وأخبرنني عن شوقهنّ لغزة وأنهنّ بكينَ كالأطفال حزناً وكمداً في الحرب الأخيرة وكأنهنّ عايشن موتَ الأجنة وسقوط الصواريخ. تركتهنّ وهممتُ بالمغادرة لأجدَ عشرة إلى خمس عشر شاباً يعلقون الزينة في زقاق بابّ حطة لإعداد إحتفالات المولدِ النبويّ، وقفتُ مشدوهةً من جمالهم وهم يتحدثونَ ويهمّون بالعمل الجاد لإنجازِ ما استطاعوا قبل المساء.. ومرة أخرى لاحظوا وجودي وعرفوا أنني من غزة.. ذهبَ أحدهم مسرعاً وعادَ من دكان جدّه حاملاً عدة أطباق خزفيّة ملوّنة وقدمها لي مبتسماً وتحوّلت إبتسامته إلى عبوسٍ قاتل عندما هممتُ بإعطاءه ثمنها، أخذني إثنان منهم في جولة وجعلوني أقبلُ طفلةً صغيرة هي أختُ أحدهم التي لم تهربُ مني كوني شخصٌ غريب بل أتت وسلّمت بكل لطافة. هذا العنصرُ الشبابيّ جعلَ الدموعَ تتمترسُ في عيوني في طريقِ العودة، والزفرات التي أطلقتها في إتجاه حاجز إيريز عندما عبرناه عائدين كانت تعبّرُ عن كل شئ.. هناكَ في القدسِ أرواحٌ صغيرة.. تعرفُ ما تريد
ودّعتُها - مدينة السلام - وأنا موقنةٌ أنّ الله الذي قدّر لي أن أعيش ذكراها مرتيّن قد تركَ لي فيها ما يعيدني إليها حتماً! وإن كانت هي تلك الطفلة الصغيرة التي لم تخف مني ولا تخافُ في العادة من الغرباء.. هي تعرف من هم الغرباء
تمت