لطالما أعطتنا الحياة الكثير من الخيارات، وكان عطاؤها مصاحباً لحرية كبيرة في الاختيار، وبناءً على كل خيار تندرج العديد من النتائج.
لكن ماذا إذا كانت هذه الخيارات على الرغم من تنوعها وتعددها غير مُرضية، أو ماذا إذا كان المختار لا يريد أن يختار بالأصل ولايشعر بالامتنان لهذه الخيارات التي بين يديه؟
ما سبق ذكره ينطبق على عدد كبير من الأشخاص والذين تمت تسميتهم إما لاجئين أو نازحين تبعاً للمكان الذي توجهوا إليه.
لم ألتقي يوما بلاجئ سوري اضطر للسفر خارج بلده أو نازحاً تنقل داخلياً، وأبدى لي أية علامة أو إشارة تشهد أن اختياره كان مرغوباً به أو حصل بكامل إرادته.
وعلى الرغم من قساوة الخيار، التأقلم هي الخطوة التالية التي يسيرون بها مواسيين أنفسهم أن غداً سيكون أفضل. ولربما يكون غداً هو أفضل بالفعل لكن لماذا لا يكون أفضل بدون أن يسبقه خيار استفند طاقتهم وقدرتهم وهدد حياتهم بالموت أو الخطر أكثر من مرة.
وتتعدد الطرق التي يحاول بها اللاجئون أو النازحون التأقلم مع البيئة الجديدة وأكثر مايدهشني هو رغبتهم الكبيرة بأن يكونوا جزءاً من الحل أو ربما الحل نفسه لمشاكلهم وضغوطاتهم.
ذهبت مؤخراً إلى مخيم #حرجلة حيث يعيش آلاف من السوريين الذين خرجوا من الغوطة الشرقية، لأقوم بعملي الذي يتضمن تقييم الوضع الحالي في المخيمات وتحديد الاحتياجات وكيفية الاستجابة لها.
كنت متحمسة جداً للذهاب، فعملي الذي أُؤمن به ورسالتي تتطلب أن أكون بين هؤلاء الأشخاص الذين أنتمي إليهم، كي أمارس دوري الذي آُدرك أهميته أكثر من أية شيء آخر.
طبعاً قبل ذهابي كنت أحاول أن أتخيل المخيم وفقاً للصور التي شاهدتها والتي ملأت صفحات الفيس بوك وجعلتني أشعر بالغيرة لتواجد أشخاص من جمعيات ومنظمات مختلفة في المخيمات وعدم تواجدي معهم؛ عموماً الوضع فاق قدرتي على التخيل بكثير.
عندما وصلنا إلى المخيم وعلى بعد أميال رأيت عدداً كبيراً من الأشخاص الموزعين بأماكن مختلفة، لم أرى في أعينهم أية اشارة استغراب فلربما اعتادوا على رؤية العديد من السيارات التي تأتي كل يوم للمخيم ليقوم ركّابها بالتقييم الذي قاموا به لأكثر من مليون مرة.
عندما دخلنا للمخيم، توجهنا مباشرة لمكتب المسؤول فيه، حيث أخذنا منه لمحة سريعة عن الوضع وعدد الأشخاص المتواجدين.
في المخيم كان يوجد مايقارب 285 غرفة و 500 خيمة، عدد الأشخاص الكلي تقريباً 17000 شخص أي بمتوسط 21 شخص بكل خيمة/غرفة!
ثم توجهت للحديث مع الأشخاص المتواجدين هناك، ومن بعض المواقف التي مررت بها والتي ادهشتني بحق هو عندما دخلت بناءً غير مكتمل البناء من أبنية المخيم، ورأيت الرجال مجتمعين يقومون بأعمال التنظيف وإكمال البناء، يحملون الفؤوس وأدوات النظافة. في البداية اعتقدت أنهم عُمّال يكملون البناء، لم يستغرق الوقت طويلاً حتى أدركت أنهم المهجرون أنفسهم شعروا بالانتماء سريعاً وباشروا بهندسة مكانهم الجديد وليس رغبة منهم لكنه الخيار الوحيد!
ذهبت للحديث مع أحدهم وسرعان ما اجتمع الجميع حولي، ظناً منهم أنني أجمع أسماء الأشخاص وحاجاتهم كي أزودهم بحقائب طعام أو نظافة موجودة في الخارج، ومنهم من اعتقد أنني أجمع أسماء من يريد فرصة عمل، لكن بعد أن أخبرتهم أنني أريد رؤية الوضع بشكل عام، صار العدد أقل وذهبوا لإكمال ما قرروا أن يبدأوا به يومهم.
سألت أحدهم هل وظفوكم لتقوموا بهذا أو أنه عمل طوعي منكم، بالطبع تعرفون الإجابة فلا داعي لذكرها. قال لي: "لا تظنّي أننا معتادون على الحياة الغير نظيفة والغير مرتبة، لو قمتي بزيارة منازلنا في الماضي لكنتي شممت رائحة النظافة من خارج البيت، نحن لسنا معتادين على ما نعيشه الآن ولكننا مجبرين، نفعل أقل ما في وسعنا وهو تنظيف المكان الذي نقطنه".
حزنت جداً عندما سمعت كلامه، شعرت أنه يعاملني على أنني زائر يشعر بالخجل أمامه لأن منزله غير لائق، أو ضيف من عائلة راقية يريد أن يثبت له أنه لم يعش بهذه الطريقة أبداً، لا يعلم هذا الشخص أنه جاء من نفس المنطقة التي جاءوا منها، وعاش طفولته مع أولادهم، ودرس في المدارس معهم ولعب في نفس حاراتهم، وسكن بجوارهم، له نفس ثقافتهم، مبادئهم، عنفوانهم؛ لكن شاءت الأقدار بطريقة أو بأخرى أن تعطيه الخيار قبلهم بالخروج من منطقة الخطر ليكمل حياته بصعوبات لا تقل عن صعوباتهم أبداً لكن بمنطقة جغرافية أكثر أمناً.
وأثناء حديثي مع إمرأة صرّحت لي بقولها: لم استحم منذ عشرين يوماً، سألتها لماذا لا تستخدمين الحمامات التي قاموا ببنائها، كان الجواب الطبيعي،"لا أستطيع الدخول والخروج من الحمام وآلاف الرجال والنساء والأطفال ينظرون إلي، حيث يوجد مقابل الحمامات مئات الخيم والغرف! ولم أعتد على هذا!! ". هنا نرى أهمية التخطيط في تلبية احتياجات النازحين، أهمية مراعاة ثقافتهم ومبادئهم أثناء الاستجابة لحاجاتهم والتي تعني لهم الكثير.
ورأيت صبياً عمره لا يتجاوز سبعة أعوام يخبر فتاة عمرها حسب تقديري خمسة أعوام قائلاً: " هل عرفتي كم عدد الأشخاص في خيمتنا!! أقل من البارحة فقد خرجت عائلة من المخيم".
هنا تدرك سوء ما آلت إليه أحاديث الطفولة، وتشعر بالخوف على مستقبل مجهول وفي الغالب لايبشر بخير. حيث أن أحاديث الطفولة وهموم الأطفال اختلفت اختلافاً ملحوظاً ومخيفاً.
رأيت العديد من الأطفال يتجولون داخل المخيم ويطلبون مني زيارة خيمتهم، ويسألون إذا ما كنا نوزع طعاماً أو معدات مختلفة لكي يستفيدو منها، حيث تجد أن عائلاتهم جندتهم ليقفوا في مداخل ومخارج المخيم يتصيدون مقدّم خدمة أو موزع إعانات غذائية لكي يصطحبه إلى خيمتهم.
زيارتي لم تتجاوز الأربع ساعات، لكنها كانت كافية جداً لتجعل أي شخص يدرك أن الأشخاص الذين يعيشون هناك لايعرفون حقوقهم، وإذا ما لُبيت إحداها يشعرون بالإمتنان والرغبة برد الجميل، مع القليل المتوفر تجدهم شاكرين وراضين بطريقة مثيرة للتعجب، قدرتهم على الصبر غريبة فقد قالوا لي وكأنني أنا من احتاج المواساة: "الوضع يتحسن، فعند وصولنا لم تكن الخدمات كلها متوفرة، والآن الوضع أفضل بكثير، الموضوع يحتاج وقت، الله يفرج".
نعم وقت!
لا أملك خوفاً عليهم الآن بقدر ما أملك خوفاً من النتائج التي ستأتي لاحقاً!!