كعادتِها، وقبلَ أيامٍ عديدة من حلولِ شهرِ الصَّوم، تبدأُ محطاتُ التلفاز بعرضِ عشراتِ المقاطعِ التّرويجية لمسلسلاتِها "الرّمضانية"، وتخرجُ علينا بعديدِ المشاهد التي تتنافس على جذب العدد الأكبر من المشاهدين، وبأفكارٍ متنوعة و"على كل ضرس لون"، فيهمُّ المتابعون إلى تنظيمِ جداولِ المشاهدة، وأوقاتِ العرضِ الأول، وتوقيتِ الإعادة في حالِ وجودِ تضارب زمنيّ، فالمشاهدُ العربيّ لا يحبُّ أن "تفوته فائتة".
ثم يهلُّ هلالُ رمضان، ويشتعلُ السباق، وتدورُ النقاشات، فهذا المسلسلُ عظيم، وذلك النَّصُّ ملحمي، وتلك الممثلةُ أنيقة وجذابة، وذلك الممثلُ صاحب "هيبة"، وهذا المخرجُ صاحبُ نظرة، "بلا حسد" طبعاً، وغيرُها من النقاشاتِ المحتدمة التي تحتلُّ جلساتِ العائلة والأصدقاء يومياً. حتى أنه ومن كثرةِ الأخذِ والردِّ والشَّد، قد يُخيَّل لسامعِ الحديث أن هذه الأصواتُ تتعالى لتحلَّ أزمات الشَّرق الأوسط، التي وعلى كثرتِها، تُصبحُ قضايا ثانوية بالنسبة لشعوبِ المنطقة القابعةِ على "جبهاتِ التلفزيون"، فماذا تشكلُ مشاكل الشبابِ العربيّ أمام فستانِ الممثلةِ الفلانية، وما هي قيمةُ الفقرِ والجوعِ والتشرد والخوف والجهلِ والحربِ والدّم والموت وانعدامِ الحرية وحقوق الإنسان و و و.. أمام معضلةِ الممثلِ الشاب ذي الوجهِ الحسن والنَّجم المحبوب في زيادةِ عددِ معجبيه على فيسبوك أو متابعيه على إنستغرام، أو ربما انتقاءِ حبيبةٍ له من بين ملايينِ المعجبات؟
في أحدِ المسلسلاتِ الجريئة، وفي خضمِّ حوارٍ ساخن، تقولُ إحدى الشخصيات التي تمقتُ متابعةَ المسلسلات -على ما أذكر-، وهنا أقتبس: "لهيك أنا ما بتابع مسلسلات، لأنهم بيعملوها تلهاية لحتى ننسى مشاكلنا"، فهل تسعى الدراما وصناعُها فعلاً، وهذا ما شهدناهُ على مدى سنينِ الحربِ الماضية، إلى تسطيحِ العقول، من خلالِ نصوصٍ ساذجة فارغة المحتوى، ومشاهدَ لمنازل فارهة وسيارات وتُحفٍ وفساتين وحفلات، و"مشاكل" لا تمتُّ لواقعنا بِصِلة؟ أم أنَّ القصةَ ماديةٌ بحتة، وهذا الإنتاجُ الخالي من الإبداع والحقيقة أصبحَ "أمراً واقعاً"، وبِتنا الآن نرضخُ تحت سُلطةِ الأمرِ الواقعِ هذا دونَ أن يكونَ بين أيدينا خيارٌ آخر؟!
وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فهل يمكنُ القولُ أن المشاهدَ يلجأُ لهذه "التخيُّلات المتلفزة" للترويحِ عن النفسِ، وتفريغِ الهمومِ التي أثقلت صدرَهُ، ولكن، وحتى إن كان الأمرُ كذلك، ليسَ بوسعنا أن ننكرَ أن هذه القناعةَ في حالِ أصبحت عامةً فسوف نصبحُ أنفُسُنا يوماً ما هياكل بشريةً، فارغة من العقولِ والأفكار والمشاعر، نعومُ في حفرةِ طين، ونهيمُ على وجوهنا، ونرزحُ تحتَ وطأةِ الواقعِ المهدمِ والممزق الذي أوصلنا أنفسنا إليه، ونحنُ بذلك نضعُ الأجيالَ القادمة أمامَ المعضلةِ الحقيقيةِ الأكبر، وهي العودةُ إلى الواقعِ المرير، ومجابهته، هذا إن لم ترثْ هذه الأجيالُ "لا واقعيةَ" آبائهم وأمهاتهم! وقبلَ أن ينعتنا البعضُ بالتشاؤمِ والتهويلِ، نقولُ أننا نطرحُ الأمرَ الواقع الآن بدونِ أن نضعَ إصبعنا أمامَ أعيننا، مؤمنينَ أن الشمسَ لا يحجبُها الغربال، قبلَ أن يقعَ هذا الواقعُ على رؤوسِنا جميعاً حتى لا نجدَ لنا مكاناً بين شعوبِ العالم، لا الثالث ولا العاشر، إن لم نكنْ قد وصلنا إليهِ بالفعل.