الإنسانة لا تولد امرأة بل تصبح واحدة" قالتها سيمون دي بوفوار عندما تعلق الأمر بالحديث عن الجندر (مصطلح يستخدم لوصف النوع الاجتماعي)، وهو الفرق بين الرجل والمرأة من الناحية والدور الاجتماعي لكل منهم.
تذكرت تلك العبارة وأنا في محاولة لأكتب عما دفعني لإخراج فيلم "هدوء" الذي تناول قضية العنف القائم على النوع الاجتماعي، قصصي في الفيلم هي قصص كل فتاة تقرأ كلماتي الآن، قصصٌ لا نجرأ على الإفصاح عنها حتى في أسوأ كوابيسنا، قصصٌ أخفيناها عن أقرب الأشخاص لنا، قصصٌ تجعلنا نعيش مخاض اللحظة كل يوم، ليس لأننا نوستالجيين (مصطلح يستخدم لوصف الحنين للماضي) بطبيعة الفطرة بل لأن الجاني في كل قصة مازال قريباً.. قريباً جداً.
بطلات فيلمي قررّن اللجوء للمحكمة، للقانون، للقضاء.. علّه يأخذ حقهن، فهل يا ترى سيفعل!؟
"أمل" البطلة الأولى تعرضت للاغتصاب بعمر العشر سنوات، اغتصبها والدها! عقوبة سفاح القربى في بعض القوانين لا تتجاوز السنة حيث تعتبر "جنحة"، لذلك تم تزويجها بعد ذلك، عندما أتمت ال13 سنة. وذلك لأن تلك الفتاة أصبحت تعي أشياء ليس من المفترض أن تعرفها فتاة بعمرها، زوجها لم يكن أفضل حالاً من والدها بل كان أسوأ وأشد عنفاً وإجراماً. قلة الوعي أو انعدامه أحيانًا تعد من أهم التحديات عند مواجهة هذه الجريمة، بالإضافة إلى غياب القانون الذي يجرم هذه الممارسة، مع غياب دعم أهل الزوجة أو رفض الاعتراف بهذه الجريمة من الأساس وعدم رغبتهم فى مناقشة هذه التفاصيل مع ابنتهم، أو عدم رغبتهم فى أن تصبح ابنتهم مطلقة. طوال الفيلم نراها تريد أن تتكلم وسط زحمة الأفكار وتشتت فضاء تفكيرها الصغير، لهذا قررت البوح بكل شيء.
"كارما" البطلة الثانية والمرأة الناشطة القوية تقرر أن تساعد "أمل" ليس فقط لأنها ناشطة نسوية تدافع عن حقوق المرأة بل لأنها بوقت قريب خرجت من علاقة عاطفية فاشلة مع طبيب عيون ذو باع طويل في العمر والخبرة، استغلها جنسياً ومن ثم تخلى عنها ببساطة، وللأسف لا تزال بعض الدساتير لا تتضمّن قوانيناً تجرّم العنف (النفسي والعاطفي)، ولا يعتبر الإغواء بقصد الزواج جناية بينما القانون الدولي يعاقب عليه، ويعتبره جريمة!
وأصبحت تريد معاقبة كل رجل معنف لأنها ببساطة لم تستطع معاقبة من عنفها، قررت عمل فيلم وثائقي عن "أمل" في سبيل إيصال صوتها، وبدأت الفيلم بعبارة "إلى أوغاد العالم.. لعنة كبيرة".
ضمن طاقم العمل كانت هناك "نور" البطلة الثالثة تلك من استشهد زوجها الشاب في الحرب، وبقيت لوحدها بعد أن طردها أهل زوجها من المنزل وأخذوا منها أطفالها الصغار، لم تجد ملجأ سوى العمل كعاملة نظافة!، ففي بعض القوانين لا ولاية لإمرأة على المال والنفس. تحاول كارما مساندة أمل في الفيلم ربما لتحقق حلماً بأخذ عدالة هي نفسها فشلت في استحقاقها!.
ينتهي فيلمي في قاعة المحكمة ... في مشهد درامي.... ويبقى الكلام للقانون والسادة القضاة.. وللعدالة!.
عندما نستعرض تلك الإشكاليات القانونية من خلال شهادات النساء الواقع عليهن العنف الأسري، فإننا نلقي الضوء على السؤال الملح الذي يشغلنا، وهو كيف تتوفر الحماية القانونية للنساء في ظل غياب مواد قانونية مقارنة بالقانون الدولي، تجرم العنف الأسري مثله مثل أي جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات، وماهي آليات التدخل من الجهات الرسمية لحمايتهن من العنف الأسري.
وعلى الرغم من قناعتي الشديدة بأن إصلاح القوانين او تغييرها يعتبر أمراً هاماً في وقتنا هذا إلا أن التغيير في القانون وحده لا يكفي في حد ذاته إن لم يسايره تغيير في نظرة المجتمع للمرأة، وتغيير بعض عاداته وتقاليده التي أحياناً تكون أقوى من القانون، وكذلك تغيير ثقافة من يقوم بتطبيقها والذي يعتبر جزء لا يتجزأ من ثقافة هذا المجتمع الذي يخول له القانون السلطة التقديرية والذي يحتوي على تمييز جديد بين النساء.
إن إصلاح نظرة المجتمع بموروثاته الثقافية عن المرأة يفرض نفسه الآن ربما أكثر من أي وقت مضى، فهذا الإصلاح ضروري بل يكاد يكون شرطاً أساسياً لتفعيل القانون ولكن تبقى هذه الإصلاحات مرتبطة ارتباطاً أساسياً بوعي المرأة بحقوقها لأنه ليس هناك مطالب بدون معرفة، فلنتكاتف جميعاً (ربة منزل/ عاملة/ طالبة/ متزوجة/ غير متزوجة) للمطالبة بحقنا في الحياة كما خوله لنا الدستور، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق الدولية دون تمييز في الحقوق بين رجل وامراة فكلنا إنسان يشعر ويتألم ويحب ويكره ويتفاعل مع الحياة بحلوها ومرها، فلماذا التمييز بين إنسان وإنسان؟ ولماذا إعطاء الحماية القانونية لنصف المجتمع وسلبها من النصف الآخر!.
يُذكر أن فيلم "هدوء" قد شارك في مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة في سوريا وحصد جائزة أفضل إخراح، كما شارك في مهرجانات محلية وأخرى دولية وحالياً يُعرض في تونس والمغرب.