لا َأملِكُ َأدنَى فِكرة عمَّا سأُعبّرُ عنه في هذهِ المُدوَّنَة، ولكِني أَعلَمُ أَنَّ لديَّ رُغبَةً شَديدةً في تَصويرِ ما يَدورُ في رَأسِيَ مِن أَفلام.
أَفلامِي الشَّخصِية الغَريبة.
أَنا صَديقَتِي المُفضَّلة...
التواجُدُ وحيداً فِي الأَماكِنِ العَامَّة، عَدَمُ انتِظَارِ الآخَرينَ للقِيامِ بِما تُحِب أَو للذَهابِ لِمكانٍ تَرتَاحُ فِيه، هذا ما أَدعُوهُ بصُحبَةِ نَفسي.
أُحِبُّ الجُلوسَ بِصَمتٍ خَارِجاً، فيخيلُ لي أَنَّ ما أَراهُ ليسَ إِلَّا فيلماً صامِتاً، العابِرونَ هُم المُمَثّلون، و أَنا المُخرِجُ والمُشاهِد، أَقرَأُ تَعابيرَ وجوهِهِم وأَختَلِقُ سيناريوهاتٍ عَمَّا يَدورُ في رَأسِ كُلٍ مِنهم.
و سُؤالي الدَّائِمُ هو، لِماذا أَنا؟
أَنا المُخرِجُ والبَطَلُ والمُشاهِدُ في اللَّحظَةِ عَينِها، لِماذا؟
هَل يُمكِنُني اختيارُ فيلميَ الشَّخصِيّ وأَحداثِهِ أَم أَنا فَقط المُشاهِد؟ و لَكِن لا جَوابَ يُقنعي حَتَّى الآن.
إِنَّ مَقدِرَةَ العَقلِ البَشريّ عَلى اختِلاقِ أَفلامِهِ الشَّخصيَّةِ غَريبة، مَقدِرَةٌ غَرِيبَة و أَفلامٌ عجيبة، لِذلِكَ اعتَدتُ أَن أَكتُبَ بَعضاً مِن هذهِ الأَفلام و مِنها هَذا الَّذي تَمَّ تَصويرَهُ في رَأسي عندما كانَ في البَاص، نَعم رَأسيَ في البَاص و أَفكَاري تَسبَحُ في بُعدٍ آخرَ لا يَعرِفُ ما هو "البَاص".
بِعُنوان "هُرَاء"
تَجلُسُ في الباص، تُراقِبُ الرَّاكِبينَ و تَعَابيرَ وُجوهِهِم، مِنهُم المُتعَبُ مُتّكئُ الرَّأسِ عَلى الزُّجاج و آخرَ بِجانِبِهِ يُراقِبُ الطَّريقَ وفَتاةٌ بِيدِها هاتِفُ، تَبتَسِمُ تِلكَ الابتسامَةَ الطُّفولية الَّتي رَسَمَتها رِسالَةٌ لَطِيفَة مِن أَحدِهِم هَذا الصَّباح.
و هَكذا تَرَى أَمثِلةً عَديدة لأَشخَاصَ صَباحِيين و غَيرَهُم مِنَ الَّذين يَكرَهونَ الصَّباحَاتِ المُشمِسَة، وأَنا أُراقِبُ المَارَّة فِي شَوارعِ المَدينةِ المَهجورَة يومَ الجُمُعة وأَستَمِعُ إِلى المُوسِيقى وكأنَّني أُشاهِدُ فيلماً أَتحَكَّمُ بِموسيقَتِهِ التَّصويرِية وزوايا تَصويرِهِ.
عَجوزٌ يَرتدِي طَقمَهُ المُفضَّلَ المُخطَّطَ الأزرق ويَقفُ شَابكَ اليدينِ خلفَ ظَهرِهِ تَارِكاً بَيتَهُ هَارِباً مِن أَحادِيثِ زَوجتهِ المُملّةِ الصَّباحِية و نَميمَتِها الَّتي لا تَنتَهي.
رَجُلَين جَالِسَين في الكَازيَّة بِملابِس نَومٍ تَقلِيدية كالَّتي اعتَدنا أَن نَراهَا فِي الأَفلامِ القَديمة، يَتبادَلونَ الحَديثَ حَولَ هُمومِهِم لَعلَّ أَحدَهُم يَجِد الحلَّ لِكُلّ ذَلكَ.
أمَّا تِلكَ المرأة فتخوضُ نِقاشَاً حَادّاً مَع صَاحبِ الدُّكانِ عَن دَفعِ الدُّيون و أَنَّ مَصارِيفَ المَدرَسة ِ مُتعِبة وكيفَ عَليهِ مُرَاعاةَ وَضعِها، وبِضعَةُ أَمتارٍ تَفصِلُ هَذا المَشهَدَ عَن شَجرِ الزَّيتونِ المُنتَصِبِ فِي هَذهِ المَدينَةِ القَاسية و كَأنَّهُ مِن حُرَّاسِها، يُلقي التَّحيةَ عَلى كُلّ سَيارةٍ تَمُرُّ بقربه باهتزازِ أَورَاقهِ الصَّغيرة.
أَهكَذا نَعيش؟ كَمُراقِبَ خَارجِيّ صَامِتَ تَرسُمُ فِي مُخيلَتِكَ صوراً عَمَّا يَدورُ في رؤوسِ هَؤلاءِ العَابِرين، لَيسوا فَقَط عَابرينَ فِي الطَّريق، إِنَّما عَابرونَ في ذَاكِرَتِكَ الهَشّة الَّتي لا تَحتَمِلُ ذِكرياتَ جَديدة إِلَّا تِلكَ الخَالِية مِنَ المَشاعِر أَو الَّتي تَستَطيعُ أَن تَضَعَ فيها الحِوارَ و البِدايَةَ و النِّهايَةَ الَّتي تُرِيدُها.
ها نَحنُ اقتَرَبنَا مِن مَحَطَّةِ وصولِنا، و ستَبدَأُ رِحلَةُ فيلميَ التالي.. في مَوقِعَ آخر.
كُتِبَ بتاريخ ١٨/١٠/٢٠١٩ ، فرح
دَعنِي أُخمّنُ ما تُفكّرُ بِهِ فِي هذهِ اللّحظَة بَعدَ انتِهائِكَ مِن قِراءَةِ هذا السّيناريو… هَل أَنا أَيضاً عَابِرٌ فِي فِيلمِ أَحدِهِم؟ أَو فِي الكَثيرِ مِنَ الأَفلامِ حَتَّى؟
أَليسَ كَذلِك؟!
مَا نَحنُ إِلَّا عَابِرونَ فِي هَذهِ الحَياة، عَابِرونَ في ذِكرَياتِ مَن نَلقَاهُم.