21 عاماً من الحرير

Like10598
Post
الصورة
حاولت جاهدة أن أبقى دوماً كما أنا على تعداد الأماكن التي حللت بها والأشخاص الذين عبروا عني ولم يعبروا مني بعد..

 

بدأتُ بصرخة.. دوّت أرجاء المشفى لتعلن قدومي.

وها قد أتيتُ لأحمل الحرير على عاتقي وأكون تحقيقاً لرؤيا أمّي.

بشَعر قصير منسدل على كتفيّ وعينان بنيّتان وبشرة حنطيّة، هكذا كنتْ.

هادئة، لا يُسمع لي صوت إلا بعد قرصة حتى يتأكدوا من أنني حيّة.

لم أكن ذات نجاح كبير في مرحلة الابتدائية، بل كنت فتاة عادية،

وكذلك الأمر في مرحلة الإعدادية.. ويميز هذه المرحلة أنه لوحظ عليّ تفوّق في مادة اللغة العربية - التعبير – على وجه الخصوص،

ومما عرف عنّي في المنزل أنني صاحبة الورقيات من ناحية رسائل الاعتذار أو الحب لأبي وأمي، أثناء الشجار أو المناسبات.

وكانت - الباربي – هي دميتي المفضلة وصديقة أوقاتي.

أثناء تقديم الشهادة الإعدادية - أي منذ قرابة السبع سنوات–

حدث ما لم يكن في حسبان أحد.

اندلعت الحرب..!

شاع أنها ستهدأ بعد حين، ولكنها كانت في كل ثانية من حياتي تكبُر..

تكبُر في قلبي وعقلي أكثر مما تكبر في عيني، يكثُر عدد الشهداء والقتلى، تكثُر الدماء والتشرد والنزوح والحرمان..

يكثُر الفقد، واليُتم والحزن والألم والمعاناة..

لم يقف الأمر عند الرجال، بل طال النساء والأطفال والرّضع.

توقفت الحياة... !

أخذت الشهادة الإعدادية تحت خيوط الرصاص ولم أستطع الذهاب إلى مدرسة ثانوية بحكم بُعد المنزل عنها.

حسناً.. إنها إجازة لأستمتع بشتوية خالية من الامتحانات والدراسة..

تعلّمت الحياكة، امتهنت الكتابة أكثر، تعرّفت على إخوتي أكثر وتوطدت علاقتي بهم.

حانت السّاعة.. ولم يعد بإمكاننا المكوث في منزلنا لأننا أصبحنا في خطر كبير..

أذكر حتى هذه اللحظة كيف كانت سيارة "السوزوكي" التي تنقلنا من حيّينا إلى منزل جدتي مسرعة حدّ الرّعب والهلع..

قبل خروجنا قامت أمي بتوضيب المنزل وتنظيفه لأننا "يومين وراجعين"..

3 عائلات في شقّة واحدة، نتشارك الطعام والتسلية والمشاكل أيضاً.

توفّت جدتي إثر مرضها الذي فاق حدّه في جسدها.. "مرض السرطان".

أذكر لوعة أمي وإخوتها وهم يبحثون عمّن تقوم بتغسيلها وتكفينها.. ونظراً للرصاص المتطاير، لم يتمكن أحد من القدوم..!

قامت أمي وخالاتي بتكفين أمهم!

الآن وبعد 6 سنوات من وفاة جدتي.. لا تُمحى من ذاكرتي تلك اللحظة..

تكبيراتٌ لروح جدتي، بكاءٌ ونواح، صوت الرّصاص المتطاير..

بعد أيام عرفنا أن قذيفة وقعت على منزلنا فدمرّت الشّرفة وسبّبت تشققات في جدران الغرف.

مضت الأيام وزاد الحمل في المنزل وغادرنا المدينة إلى قرية مجاورة وجد السّلم فيها.

أسسنا منزلاً وكلّ منا بحث عن عمل، عدت لمدرستي التي قطعتها سنة من عمري.

10 شهور من الأمان والحياة المستقرة، حتى انتقلت عدوى الحرب إلى القرية، واجتثت كل ساكن من سكنه وأمانه.. وشُرّدنا مرة أخرى..

فراق.. خيبة.. بكاء.. قرارٌ وانتظارٌ ووداع.

عدنا إلى المدينة المدمّرة.. إلى اللا شيء، إلى اللا أمان، إلى الفوضى.

بدأنا من الصفر، أيضاً أسّسنا منزلاً جديداً، سجلت في مدرسة ثانوية لأكمل تعليمي..

ليست حارتي، ليس سريري، وليست وسادتي..

ليسوا أصدقائي، ليسوا جيراني، ليست هذه هي حياتي..

غريبة في وسط غريب..!

حاولت التأقلم، أصبحت أجاري الأيام لأعيش..

لم يكن الوضع هادئاً، بل كانت تتكاثف القذائف يومياً أمام مدرستي، ورغم ذلك بقيت حيّة أتحدى كل الصّعاب..

أقبلت على امتحان الثانوية العامة العلميّة، خضته بصعوبة.. وتجاوزته والحمد لله.

عالم جديد، مليء بالتحديات والصعوبات، حياة جامعية تحوي كل الأشياء الغريبة.

أتجاوز أيامي وكأنها الأخيرة، عالمي مليء بالحداثة.. حداثة الأشخاص والأعمال والتجارب.

أحبّ عملي كثيراً، عملت في مجال التطوع عند إنهائي مرحلة الثانوية، وكان هذا المجال من أجمل الأشياء التي حصلت في حياتي.

بعض أحلامي حققها عملي، وبعضها اختنق بدخان القذائف.

فتح لي باباً من الأمل حسبته مغلقاً من شدّة صعوبة كل شيء، تعرّفت على ذاتي وعلى الكثير من الأشياء.

لطالما حمل تشرين الثاني الكثير من الأحداث.. الجميلة منها والسيئة، المفرحة والمحزنة..

حمل الكثير من الدموع والتنهيدات والبدايات والنهايات..

حمل مشاعر عديدة..

حاولت جاهدة أن أبقى دوماً كما أنا على تعداد الأماكن التي حللت بها والأشخاص الذين عبروا عني ولم يعبروا مني بعد..

اختتمت 21 عاماً من المشاعر، من الحياة، من العَبَرات، من الضحك، من المزاجية، من النضوج، من التجارب، من الأصدقاء، من الحرير..!

لأمضي الآن السّير في حياتي وحياة الآخرين حريراً أخضراً..

أتسلّق الأمل جهاداً في سبيل الحياة

مدونة